من طرائف الجفاف في تكانت

عام 2020، كانت الأرض تستغيث عطشًا، وكانت السماء شحيحة بالمطر. جفت المراعي، وتبددت آمال الرعاة في موسم خصيب. في بلدية لحصيرة، سبقها الغيث، فكانت وجهةً حتمية لماشيتنا بحثًا عن الأكل . رحلة لا خيار فيها، فرضها علينا جفاف الارض
رافقني في هذه المغامرة الأخ حمود محمد عبدالله وحزمنا أمتعتنا مع الصباح الباكر: صكمارة، بيدون ماء، وبعض الزاد من أتاي وفرين، وانطلقنا بخطى ثابتة صوب اتويمرات الدميان، على بُعد سبعين كيلومترًا، وسط أرض قاسية لا تعرف الرحمة و ما استوت الشمس في كبد السماء حين وصلنا إلى قرية امسيلة لكويسي، منهكين من المسير الطويل. هناك، وجدنا كرم أهل الصحراء في أبهى صوره، فرغم قسوة الصيف والجفاف الذي أهلك الزرع والضرع، استقبلونا بحفاوة بالغة، قدموا لنا ما تيسر من قوتهم، وشربنا أتايًا أذهب عنا بعض العناء.
قضينا الليل هناك، ومع أولى خيوط الفجر، تابعنا الرحلة حتى بلغت الشمس منتصف السماء، حين وصلنا إلى اتويمرات الدميان. لكن هنا بدأت قصة أخرى، أكثر تعقيدًا ومغامرة.
عند وصولنا. تحزمنا من جديد وسرنا في دروب وعرة، حتى حصلنا عليه، لكن لم يكن هذا كافيًا، فالحيوانات بحاجة إلى المزيد من الحشّ.
تواصلت مع إحدى سيارات النقل لجلب ازكايب من “النخالة”، لكن حين وصل الحش، واجهتنا مشكلة كبرى لا وسيلة نقل سوى حمير متبعرصة بالكاد تحمل نفسها، فكيف لنا أن نحمل عليها أحمالًا ثقيلة؟ قررنا الاستعانة بالله والمغامرة، وشددنا الوثاق على الحمير، وحملنا عليها الحشّ، وتوجهنا إلى لحصيرة عبر أرض مجدبة، تبتلع الخطى حلّ المساء ونحن نقترب من لحصيرة، وكان علينا حراسة البقر طوال الليل، فقررنا تقسيم السهر أنا أسهر في النصف الأول من الليل، وحمود يتولى النصف الآخر.
لكن الإرهاق غلبنا، ولم نشعر إلا وقد استسلمنا لنوم عميق… حين استيقظنا، لم نجد البقر!
الصمت كان ثقيلًا، والليل حالكًا، والمصباح الوحيد الذي كنا نعتمد عليه انطفأ فجأة، وكأن البقر تواطأت مع الظلام لتختفي.
بدأنا نتبع الأثر في أرض مجهولة مع أولى خيوط الفجر، بدأنا في البحث، لكن الأثر في ادركان “لحصيرة” لا يكاد يُرى. تتبعناه بصعوبة، حتى لاح لنا بريق أمل عندما وجدنا آثارًا واضحة تشير إلى وجهة الماشية.اقترحنا أن يتوجه حمود خلف الأثر بينما أبقى أنا مع العجول والحمير، لعل الأمهات تعود بحثًا عن صغارها.
لكن المشكلة الأكبر كانت أن بطاريات هواتفنا نفدت، والرزو كان معدومًا في هذه الأرض المنسية! أنا وحدي، وسط الصحراء، مع قطيع صغير من العجول والحمير، والوقت يمر ببطء كأنه لا يريد أن ينتهي. مرّ الوقت، ولم يعد حمود. عند الثانية زوالًا، لم يكن لدي أي خبر عنه، ولا وسيلة للتواصل. فجأة، بينما كنت أفكر في الخطوة التالية، رأيت الأفق يتغير… لم تكن سحابة مطر، بل كانت عاصفة رملية تتقدم نحوي بسرعة، وكأنها وحش هائج يبتلع كل شيء في طريقه. وفي وسط هذه الفوضى، سمعت أصواتًا غريبة… لم تكن الريح وحدها تصرخ، بل كانت هناك ذئاب!
في تلك اللحظة، أدركت أن التوقف ليس خيارًا. استعنت بالله، تشبثت بالعجول، وحاولت التقدم رغم الريح التي تعصف بكل شيء.
مع غروب الشمس، كنت قد قطعت مسافة طويلة، لكنني كنت مرهقًا، وحيدًا، بلا ضوء، بلا دليل، بلا رفيق.
لم يكن أمامي سوى النار، أوقدتها في الظلام، لتكون دليلي وحارسي في هذه البرية الموحشة. جلست أمامها، أراقبها وهي تتراقص في الريح، كأنها تهمس لي “اصمد، فالصباح قريب.”
عندما عادت العاشرة ليلاً، كنت لا أزال واقفًا وسط الظلام، وحيدًا، أترقب بصيص أمل، لكن حمود لم يعد. شعرت بقلق شديد، فالوقت يمضي، ولا خبر عنه. لم يكن أمامي خيار سوى التقدم في المجهول، بحثًا عن أي علامة للحياة، عن أي نور يهدي طريقي وسط هذا السواد الحالك. وفجأة، لمحت ضوء نارٍ يلوح في الأفق! كان بصيصًا بعيدًا، لكنه كان كافيًا ليمنحني قوةً لمواصلة المسير. توجهت نحو النار بخطوات متثاقلة، منهكًا، لكن الأمل كان يسبقني.عندما وصلت إلى هناك، وجدت من ينتظرني!
عثمان محمد تكدي و الوالحد محمد تكدي حفظه الله ورعاهوشفاه من كل مكروه، كانا هناك، واستقبلاني بحفاوة لم أتوقعها. كان اللقاء مؤثرًا، لم يكن مجرد استراحة عابرة في رحلة شاقة، بل كان بداية معرفة حقيقية، صداقة تولد في قلب المحنة. “المعرفة الحقّ تكون في السفر والمحن”
كنت أعرفهم من قبل، في النيملان، لكن كما يُقال: “المعرفة الحقيقية لا تكون إلا في السفر والمحن.” هنا، وسط الظلام، بعيدًا عن الأهل والمألوف، شعرت بدفء الأخوة. تبادلنا الحديث، أخبرتهم بما جرى، وأخبروني بما مرّ عليهم، ثم جاء والدهم محمد تكدي، سأل عني بحفاوة واهتمام، وكأنني فردٌ من عائلته.
عودة القطيع… لكن بعد عناء طويل
في تلك الليلة، كان التعب قد نال مني، لكن راحتي لم تكن مكتملة بعد، فالبقر لم يعد. كان القلق لا يزال يطاردني، تمامًا كما طاردني الجوع والعطش والتعب طوال الرحلة.
لكن، وكأنّ القدر قرر أن يختتم هذه القصة على نحوٍ مختلف…
مع بزوغ الفجر، وبعد يأسٍ طويل، عاد البقر! عاد بعد رحلة شاقة، بعد عناء لا يُحصى، بعد مغامرة لن تُنسى.
رحلة لا تُنسى… وعبرة تبقى
لم تكن هذه مجرد رحلة عادية، بل كانت درسًا، في الصبر، في الشجاعة، في التحمل، وفي أن المعرفة الحقيقية لا تولد إلا في الشدائد.
هذه الرحلة ستبقى محفورةً في ذاكرتي مدى الحياة، لن أنساها أبدًا، فقد حملتُ فيها تعبي وخوفي، لكنني كسبتُ فيها صداقةً حقيقية، وتعلمت فيها أن المحن قد تخبئ لنا هدايا لم نكن نتوقعها.
نهاية مؤقتة للقصة ..
يواصل إن شاء الله
النمد محمد احمد اسويدي