ضحايا غرام وعادات .. بقلم علي محمد اعل

#مقالات
في الساعة الثانية ظهرا من يوم السبت الموافق لــ 9 يوليو 2022م، ذهبت آمنة إلى جامعة نواكشوط العصـرية، رفقة ثلاث صديقات لها، كي يحضـرن حفل تخرج صديقتهن” هند”، وبعد رحلة دامت ثلاثين دقيقة من حي توجنين على متن باص سريع، وصلن الجامعة، والحماس يعلو وجوههن، صعدت “آمنة” عبر السلم إلى الطابق العلوي، وانحنت، وأسندت مرفقيها على جدار صغير، في وضعية تشبه الركوع، وبدأت تتأمل جحافل الطلاب، تتـحـــرك كخلية نحل في هذا الفضاء الأخضـر الواسع، في انتظار انطلاقة الحفل المنشود.
وكانت “هند”، و”آمنة”، نسجت بينهما صداقة قوية، رُسمت ملامحها منذ أن ترعرعتا، وشبتا معا في الابتدائية، لم تكن تربط بينهما أية قرابة سوى الصداقة، والجيرة.
على تمام الرابعة مساء، بدأ الحفل باستعراض بعض الفقرات المتنوعة، التي تعرض تفاصيل مسيرة علمية دامت ثلاث سنوات أفرضها نظام ثلاثي الأبعاد يسمى(L-M-D).
انطلق الحفل انطلاقة صاخبة، ألقى الخريجون فيه خطابات رصينة، كانت من بينها كلمة باسم الخريجين، ألقاها شاب أنيق يعلوه سمت، ووقار، أنموذج فريد في مظهره، وسلوكه، ذلك الشاب يدعى “إمِجين” ينتمي لأسرة فقيرة، لكنّ والدته “هاوَ” استطاعت من خلال عملها المتواضع -بائعة خضار-، أن توفّر لابنها حاجياته الأساسية، ونتيجة اهتمامه بالدراسة، وتفوقه على رأس مجموعته، أصبح “إميجن” محل تقدير، وتبجيل في محيطه، وبين أقرانه، سواء من الطلاب، أو غيرهم، فشاع اسمه في الحرم الجامعي، وغدا حديث الكل.
بعد ساعة، ونصف من الاحتفال، والاحتفاء بالتخرج، من قبل الطلاب، وذويهم تداعى الحاضرون إلى مأدبة أقامها المنظمون، فتـراشفوا كؤوس الشاي، والعصائر، وتراقصوا طربا، ولولا حرم الجامعة، وقيود المجتمع لتجاوز المجون حدود الشرع
في نهاية الحفل اجتمع الخريجون بغية التقاط صور تذكارية أشرفت على التقاطها “آمنة”، فتراءى غضها لإميجن من نظرته الأولى، فبدأ منذ ذلك الحين يسـرق إليها النظر، كلما وجد إلى ذلك سبيلا، وبدأ شغف حبها يتسلل إلى قلبه.
“آمنة”، فتاة فاتنة، قمحية اللون، ذات عيون كحيلة واسعة، وجسم متناسق، لا تهتم بالدراسة بقدر ما تهتم بالمظهر، وضعت حدا لتعليمها الجامعي، قبل إكمال الحلقة الأولى (مرحلة اللصانص)، وتعلمت من صديقتها “هند”، كيف تظهر مفاتنها، بحياء أنثى موريتانية المنشأ، نهلت من أمها حسن التعامل، وإدارة البيت، كما اقتبست منها، كيف تحقق أهدافها في الحياة.
أسدل الستار على الحفل، وعاد الجميع إلى أهله، لبدء رحلة جديدة، ومسارات أخرى، بحثا عن العمل والتوظيف، بيد أن “إميجن” عاد من الحفل بقلب مكسور، يخفق حبا، ويرشح غراما، لم يتمالك نفسه حتى أرسل رسالة إلى صديقته “هند “عبر الواتساب، يستفسر فيها عن “آمنة”؟
أجابت هند على الأسئلة، بشكل دقيق ومحكم، ومن ثم طلب “إميجن” هاتف “آمنة”، وأرسل إليها رسالة نصية على كف عفريت إلكتروني، أرسل الرسالة، وختمها بابتسامة تنم عن سعادته، وفرحته، لكن “آمنة” تجاهلتها، فبات ينتظر، والأمل يحدوه، غير أنه صحا على عطش الخيبة.
تتايعت أيام الحزن والاشتياق على “إمِيجن”، فلم يحصل على جواب الرسالة، التي كتبها بمداد قلبه، ولم يجد بدا للافتكاك من سهام تلك الفاتنة، فكلما تذكر الماضي، هاجت غرائزه الحبلى بالانكسار.
وفي يوم من أيام العاصمة نواكشوط الرتيبة، تم تنظيم حفل ثقافي في المتحف الوطني، قرب السوق الكبير في قلب العاصمة، حضـرهُ جمع غفير، فكانت “هند”، و”آمنة”، من بين الحاضرين، وكان “إميجن” أيضا من ضمنهم، فهو عادة لا يُفوّت لنفسه حضور الأنشطة الثقافية، كما دفعه الشغف، وحب “آمنة”، إلى التفتيش عنها في أي مكان قد توجد فيه، وعندما شاهد إعلان الحفل، قرر الحضور دون تردد، لعل وعسـى أن يجد قميص “آمنة”، ليستعيد بصر قلبه.
وصل “إميجن” إلى المتحف، والتقى ببعض زملائه القدماء بالجامعة، وكانت فرصة لهم للحديث عن حياتهم بعد التخرج، كما التقى فجأة بهند وآمنة، فتسارعت نبضات قلبه، وألقى التحية عليهما، وبدأ يتلمس خيوط الكلام، ليتذكر موقفا من الموافق التي جمعتهم في حفل التخرج.
أثاروا أشياء عديدة، واعتبرها فرصة ليستجوب فتاة أحلامه، قائلا بنبرة المتأسف لحاله: لماذا تجاهلت الرسالة التي بعثت لك عبر الواتساب؟، فحاولت مراوغته بذكاء أنثى ماكرة، لكنه أصرَّ عليها، فحدثته بغُصة، معربة له عن رفضها لما قرأته في وجهه قبل الرسالة.
تمالك “إمِيجن” أنفاسه لحظتها، ثم عاد إلى المنزل منهكا، وارتمى في ركن قصــي من غرفته، تاركا لنفسه فرصة البحث عن حلول لإقناع عشيقته العنيدة، فارتأى أن يكلم “هند” في الموضوع، لتكون وسيطا بينهما، وما هي إلا أيام قليلة، حتى أقنعت “هند” “صديقتها، لتوافق “آمنة” على العرض الذي قدمه “إمِيجن”، ومن ثم بدأت حديقتهما تزهو يوما بعد يوم، واستـمـرت علاقتهما ثلاث سنوات مفعمة بحب صادق.
لم يلبث أن قرر “إمِيجن” طلب يد “آمنة” للزواج، ففاتحت والدتها “مريم” في الموضوع، فأثلج ذاك صدر الأم، فتباحثت مع زوجها “يعقوب” في الأمر ليلا، فلمست من جوابه رفضه القاطع لزواج “آمنة” من “إمِيجن” بحجة انتمائه لشريـــحة معينة، لا تناسب ابنته وشريحتها الاجتماعية، بل وزاد على ذلك، أن بناته لا يتزوجن إلا من أبناء عمومتهن، وأن ابنته يسعى لتزويجها لابن أخته “خالد” المقيم في نواذيبو، والذي ترفضه الفتاة “آمنة”، وتحزن لذكره.
استاءت “مريم” لجواب الأب، وحاولت أن توضح له مدى تعلق “آمنة” بإمِيجن، مشيرة إلى أن الزواج ستر للبنات، خاصة اللواتي نشأن في هذا العصر، لكنها كانت تحدث صخرة صماء.
أبلغت الأم ابنتها برفض أبيها، فوقع الخبر كالصاعقة عليها، فتأسفت، وكبلت المآسي مشاعرها المكبوتة، واعتكفت في غرفتها، وأحكمت إغلاقها عليها، ودفنت رأسها بين مخدتين محشوتين بالألم، والخيبة، واستسلمت لبكاء صامت، وحاولت إخماد نار غرام حرقت قلبها وأحشائها، مكثت ثلاثة أيام دون أكل، فشعرت الأم “مريم”، بانزعاج وحسـرة داما أياما معدودة، مما تسبب في تدهور حالتها الصحية، لتسلم روحها إلى بارئها، تاركة خلفها قصة حزن وألم، فانعكس ذلك على حالة البنت، النفسية، والجسدية، والصحية، وفي اليوم الرابع بعد وفاة الأم، فقدت المسكينة “آمنة” جمالها ونضارة وجهها، وبدأ المرض ينخر جسمها، مما تسبب لها في شلل نصفي لم تشف منه بعد.
وفي الجانب الآخر، يعيش “إمِيجن” وضعا لا يبتعد كثيرا عن ما آلت إليه حياة فاتنته، فقد انكسـر وانهزم؛ وارتكب حماقة جنونية، حيث رمى بنفسه من أعلى المنزل، ليصاب بجروح وكسور بليغة، فنقل على وجه السـرعة إلى مصحة خصوصية، غير بعيدة من منزله، دلفوا به إلى الحالات المستعجلة، حضـر الجراح، وكل الأطقم الطبية، ومن ثم أدخلوه في غرفة العمليات، … بكاء وأنين من ذويه، كانت ترافقه أمه “هاوَ” التي خيم عليها الحزن، والتفكير فيما حدث لولدها…، رافقها أحد الممرضين، مخففا عليها هول الصدمة، لتبقى في الخارج مؤنسا إياها بكلمات التفاؤل، لكن كلامه كان بالنسبة لها بمثابة ذر للرماد في العيون، فرفضت الخروج، وفضلت البقاء مستلقية عند باب غرفة العمليات تتعذب بأنين ابنها المدلل.
وبعد ساعات من الانتظار أنهى الأطباء العملية التي باءت بالفشل، وخرجوا تغمرهم الحسـرة، بعد ما علموا أنها محاولة انتحا..ر سببها غرام، وعادات.
“علي محمد اعل”