نواذيبو جزيرة الأحلام والأمل .. بقلم علي محمد اعل

نواذيبو جزيرة الأحلام والأمل

بقلم : علي محمد اعل

أنوه هنا على أنني كتبت باندفاع القلب لا بحساب الكلمات والجمل، لذا سامحوني على طول المقال.

كنت أظن وليس كل الظن إثما، أن الحياة لا تتعدى حدود المدن التي نولد، ونترعرع بها، وفي لحظة إدراك، أدركت أن الفعل “كان” اعتراه النقصان…
صحيح أن كتب الأدب، والتاريخ الإسلامي تخبرنا عن تعلق الإنسان بأول أرض ترعرع بها، فبلال بن رباح عندما اشتاق لمكة بلده الذي تربى به حن إليه وسمع ينشد:
ألا ليتَ شِعري هل أبيتن ليلة
بوادٍ وحولي إذخِرٌ وجليلٌ

وهل أردن يومًا مياهَ مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل

وفي الحقيقة هذا لا يعني التعصب لمكان دون آخر، فالمدن التي نسافر إليها وتعيد تشكيلنا بصمت، وتمنح أرواحنا معنى الانتماء إليها، هي مدن لايمكن أن يعصف بها بعد الرحيل تحت وابل من عصف النسيان، بل تبقى عالقة في وجداننا كأنها وشم في الذاكرة، ونسيم لا يغادر الصدر..

فنواذيبو التي تركت الباب مفتوحا لمن توخى البقاء، لم تجبر أحدا على الرحيل،
بل تركت القرار للزائر نفسه، إذ تعرف أن الفقد لا يملى ولا يمنع؛ فلكل إنسان وطنان أحدهما في الأرض والآخر في الشعور ومن بين الاثنين كانت هي الأحن: احتضنتنا كما تحتضن الأم الرؤوم أبناءها في يوم ضبابي يشبه أيامها ولياليها، وأحبتنا بصمت يشبه كرم وسخاء أهلها، وغدت لنا وطنا آخر نلوذ إليه كلما اشتد الحنين إلى الأول.

صدق الشاعر حين قال:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدًا لأول منزل

فكلما ابتعدت عنها ازددت لها شوقا وكلما اتيحت لي الفرصة لزيارة أزداد لها حبًا وبها تعلقًا…

ففيها رأيت أحلامي تمشي سافرة دون حجاب؛ أحلامي التي نمت وكبرت معي بين معاهدها ومدارسها وأماسيها الثقافية…

في نواذيبو الزمن ليس خطا مستقيما، بل دوائر من الحنين والصداقة والتسامح….

الصباح هنا لايشبه الصباحات التي ألفناها؛ يكون الضوء باهتا كوجه نسي الضحك…
والسماء تتثاءب على مهل كأنها تخشى مما ستراه إن أشرقت، حتى الحمام لم يصدر صوته المعتاد كأنه ينتظر إذنا من الضباب..
في نواذيبو كل شيء مختلف حتى طريقة السلام والكلام، وركوب التاكسي يختلف أيضا باختلاف مشارب الناس ومآربها: أناس إن هموا بتحيتك قالوا: “مرحبا”
أو”hello”
أو “nî hăo”
أو “bienvenue”
أو “hola”…
في نواذيبو كثيرة هي الصنابير بيدَ أن الماءَ قليلٌ، والشوارع لا تشبه الشوارع، والأرصفة تصغي بتوجس لأي عابر كي تحفظ خطاه، ورائحة البرد تورم أنوف الفقراء…
في نواذيبو امرأة لا تشبه النساء جذابة الملامح، خفيفة الروح، مجبولة بطين الصبر، تتجمع على محياها كل أوجاع الوطن…
في نواذيبو ترى أمهات عظیمات يجلسن تحت مظلات كالأعرشة، تجاعيد وجوههن تشبه تجاعيد الوطن المنكوب، يبعن خضروات قادمة من المغرب، يجدن الضحك، والبكاء في آن معا.

في نواذيبو ترى أطفالا يخرجون في الصباح الباكر، یحملون رزما من الكتب، والأقلام، يرتدون_في الغالب _ ملابس غربية، أسنانهم تصطك من شدة البرد، ومع هذا كله یبتسمون لكل الوجوه، ویوارون فقرهم بتربیتهم العظیمة …
في نواذيبو تستيقظ على نسيم المحيط يداعب نافذتك بلطف، كأنه يريد أن يوقظ فيك رغبة الحياة من جديد.

نعم ها أنذا أغادر كل جميل في نواذيب، كمن ينتزع نفسه من دفء ألفه، ومن ضوء اعتاده، ومن معهد يحفظ خطاه كما تحفظ الأم اسم طفلها…
لكن يا مدينة الأحلام والأمل، والمعزة ومهد الذكريات! مهما غبت عنك يبقى لكِ في القلب وصال.
إن ضاعت مني الطرق، فأنت الطريق، وإن تاهت عني الوجوه، فمحياك آخر ما يضيع، وإن طال السفر، فستبقين أنت الفصل الذي لا يغلق من كتاب العمر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى