رحلة نفض الغبار عن ذاكرة مدينة نواذيبو… قصة شغف تحوّل إلى مشروع توثيقي شامل

رحلة نفض الغبار عن ذاكرة مدينة نواذيبو… قصة شغف تحوّل إلى مشروع توثيقي شامل
[بقلم عبد الباقي العربي باحث مهتم بتاريخ انواذيبو ]
قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، لم تكن مدينة نواذيبو الساحلية تمتلك نافذة رقمية تُعرّف بتاريخها، أو أرشيفًا يليق بمكانتها، أو منصة تهتم بمعالمها الثقافية والمعمارية. كانت المعلومات على شبكة الإنترنت شحيحة، والصور القديمة شبه معدومة، والوثائق التي تحفظ ذاكرة المدينة متناثرة بين مكتبات بعيدة أو محفوظة في ذاكرة رجال ووجهاء عاشوا تحولات هذه المدينة الفريدة.
ومن قلب هذا الفراغ، تولد لديّ دافع داخلي ومسؤولية أخلاقية تجاه المدينة التي ولدت فيها وترعرعت بين أحيائها. لقد شعرت أن نواذيبو — هذه المدينة التي كانت مسرح طفولتي ومرتع ذكرياتي — تستحق من يعيد الاعتبار لتاريخها، وينفض الغبار عن أرشيفها المنسي، ويعيد تقديمها للأجيال القادمة كما ينبغي.
كان الطريق طويلًا، والبدايات شاقة تتطلب جهدًا ووقتًا وصبرًا. بدأت أولى خطوات المشروع بجمع كل ما يمكن الوصول إليه من أرشيف وصور وكتب ومراجع. قادني البحث إلى السفر نحو عدة مكتبات داخل وخارج البلاد، واللقاء بعدد كبير من الشخصيات التي خدمت في المدينة خلال مراحل مختلفة من تاريخها.
أجريت مقابلات مطوّلة مع وجهاء وأعيان وأبناء نواذيبو الذين عاشوا أحداثًا صنعت ملامح المدينة. كانوا كرماء في نقلهم للمعلومات، وكنت بدوري حريصًا على توثيق كل كلمة، والتحقق منها عبر الكتب والمخطوطات والمصادر التي كتبها الفرنسيون عن نواذيبو، والتي أمتلك منها ولله الحمد مجموعة كبيرة.
وفي كل لقاء، كانت تتكشف لي صفحات جديدة من تاريخ المدينة… صفحات لم تُكتب بعد ولم يسبق تدوينها.
بعد سنوات من البحث الميداني، والتحقق من المصادر، وجمع الوثائق والصور، تبلورت الفكرة في شكلها النهائي: إنشاء صفحة رقمية تُعنى بتاريخ نواذيبو، وتحمل اسم “نواذيبو القديم”.
لم يكن إنشاء الصفحة مجرد فعل تقني، بل كان مشروعًا ذا روح ورؤية ورسالة، تطلب الكثير من الجهد والوقت. وضعت هدفًا واحدًا أمامي: أن تكون هذه الصفحة مرجعًا شاملاً لكل من يريد التعرف على تاريخ المدينة، وأن تكون بوابة لإحياء الذاكرة الجماعية لنواذيبو.
ومع مرور الوقت، بدأت الصفحة تنمو، وبدأت ثمار الجهد تظهر جلية.
مئات الصور… عشرات الوثائق… وأرشيف مفتوح للجميع
استطعت بفضل الله، ثم بفضل تعاون الكثير من المهتمين والباحثين، نشر مئات الصور النادرة للمدينة، بعضها يعود لعقود طويلة. كما نشرت عشرات الوثائق التاريخية التي تكشف مراحل مهمة من حياة نواذيبو.
وتضمنت الصفحة أيضًا تعريفًا بالشخصيات التي كان لها دور محوري في وجود المدينة، سواء من الوجهاء أو قادة الرأي أو الشخصيات السياسية والثقافية.
لم يقتصر العمل على النشر الرقمي فقط، بل امتد إلى الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب. أعددت وثائقيات، وساهمت في برامج، وشاركت في لقاءات إعلامية عديدة تحدثت فيها عن تاريخ المدينة ضمن حملة أطلقت عليها “نفض الغبار عن تاريخ نواذيبو”.
لم يكن هدفي يومًا التكريم أو الإشادة أو الحضور الإعلامي؛ بل كان العمل كله بدافع رد الجميل للمدينة التي صنعتني واحتضنت طفولتي. ما قدمته ولا أزال أقدمه هو أقل القليل مما تستحقه نواذيبو علينا جميعًا.
واليوم يمكن القول — بكل تواضع — إن نواذيبو أصبحت تمتلك أرشيفًا رقميًا وثائقيًا ثريًا، ومرجعًا يعترف به المهتمون والباحثون، ويستفيد منه كل من يريد معرفة تاريخ هذه المدينة المدهشة.
لا بد من تقديم شكر خاص لكل الذين دعموا هذه المسيرة الطويلة: الباحثين، والوجهاء، وقادة الرأي، والصحفيين، وكل شخصية ساهمت ولو بمعلومة صغيرة أو صورة قديمة. لقد كان تعاونهم حجر الأساس الذي بُني عليه هذا المشروع.
رغم كل ما تم إنجازه، يبقى هناك طموح رافقني منذ اللحظة الأولى: إنشاء متحف
متحف يضم الصور القديمة، والوثائق، والمقتنيات التاريخية، ويكون فضاءً مفتوحًا للباحثين والزوار والأجيال القادمة. أسأل الله العلي القدير أن يوفقني لتحقيق هذا الحلم، وأن يرى النور في المستقبل القريب ليكون إرثًا دائمًا يخدم المدينة وسكانها.
ختامًا…
هذه الرحلة لم تكن مجرد مشروع توثيق، بل كانت قصة انتماء، ومسار حب، وواجبًا شعرت أن عليّ أداءه تجاه مدينتي الأولى. وما زلت مستمرًا — بإذن الله — في جمع كل ما يمكن جمعه، وفي البناء على ما تحقق، حتى تبقى ذاكرة نواذيبو حية لا يطويها النسيان.



