تقرير محكمة الحسابات بين الحقيقة والمساءلة بقلم : أمير سعد

في الأيام الأخيرة، تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أخبارا مثيرة حول تقرير محكمة الحسابات وما تضمّنه من ملاحظات خطيرة عن سوء التسيير في بعض القطاعات الحكومية.
ورغم أن كثيرين لم يطّلعوا بعد على نص التقرير الكامل، إلا أن ما تم تداوله يثير جملة من التساؤلات حول توقيت النشر، ودوافعه، ومآلاته.
أول ما يجب التنبيه إليه هو أن التقارير الرقابية ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لإصلاح الخلل ومحاسبة المقصرين. غير أن واقعنا الإداري، وللأسف، يجعل من هذه التقارير مجرد أوراق تتداول ثم تُنسى، دون أن تتبع بإجراءات تصحيحية حقيقية.
إن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا هو:
لماذا يتهم بعض المسؤولين في هذه الفترة بالذات، رغم أن أداء الوزارات يراجع سنويا، وكل المشاريع تمر عبر مراحل تفتيش ومتابعة؟
فمن المفترض أن تكون هناك رقابة دورية من مفتشية الدولة، ولجان للصفقات العمومية، وهيئات محاسبية على مستوى كل قطاع.
فإذا كانت كل هذه الأجهزة تعمل بانتظام، فكيف تسلل الفساد وسوء التسيير بهذه السهولة؟
هل الخلل في آليات الرقابة؟ أم في تطبيق القانون؟ أم أن بعض التقارير تبقى حبيسة الأدراج حتى تتغير الظروف السياسية؟
تؤكد بعض المعطيات أن التقرير الأخير اعتمد على عمليات تدقيق تمت خلال الأعوام الماضية، وأن نتائجه كانت جاهزة منذ فترة، إلا أن نشرها في هذا التوقيت أعاد النقاش حول شفافية التسيير العام وفعالية المؤسسات الرقابية.
ويبدو أن جهة النشر هي محكمة الحسابات نفسها، وفقا لصلاحياتها الدستورية، التي تفرض عليها تقديم تقرير دوري عن الوضع المالي والإداري في الدولة.
لكن نشر التقرير وحده لا يكفي، لأن المواطن لا يبحث فقط عن من أخطأ، بل عن ما الذي سيتغير بعد ذلك؟
هل ستتم محاسبة المتورطين واسترجاع الأموال؟ أم أن الأمر سينتهي بمجرد بيانات ووعود لا تنفذ؟
لقد سئم الشعب من ثقافة اللاعقاب، حيث يُكشف الفساد ثم يطوى الملف دون نتائج تذكر.
وحتى نكون منصفين، لا يمكن اختزال الفساد في أسماء محددة فقط، فالمسألة هيكلية وبنيوية تمسّ جذور النظام الإداري نفسه.
إنها تبدأ من غياب التخطيط والرقابة الصارمة، وتمر عبر ضعف الرواتب وهشاشة القيم المهنية، وتنتهي عند تطبيع المجتمع مع الثراء غير المشروع.
نرى مسؤولين وموظفين يملكون منازل فاخرة وسيارات فارهة لا تتناسب مع دخولهم، في حين يعيش المواطن البسيط على الهامش. هذه الفوارق تزرع الإحباط، وتفتح الباب أمام الشك في نزاهة الدولة ومؤسساتها.
من جهة أخرى، يجب ألا نغفل البعد السياسي لما يحدث؛ فبلدنا اليوم يعيش مرحلة دقيقة، تتطلب تماسكًا داخليًا وشفافية مطلقة، لا تسريبات ولا انتقائية.
إن محاربة الفساد ليست حربا ضد أشخاص، بل ضد ثقافة ترسخت عبر عقود.
فالإصلاح الحقيقي لا يقوم على التشهير، بل على بناء منظومة متكاملة للرقابة والمساءلة والمحاسبة.
ولذلك، فإن الخطوة المنتظرة بعد التقرير يجب أن تكون واضحة وصارمة:
1. فتح تحقيقات قضائية نزيهة تشمل كل الملفات التي وردت في التقرير.
2. استرداد الأموال العمومية المنهوبة أو المهدورة.
3. نشر نتائج المحاكمات للرأي العام ليعرف الجميع أن العدالة تسري على الكل.
4. تفعيل مبدأ “من أين لك هذا؟” لكل مسؤول أو موظف تظهر عليه علامات الثراء غير المبرر.
5. تجريم التواطؤ والصمت الإداري الذي يسمح بمرور الصفقات المشبوهة.
6. تحصين المؤسسات الرقابية من التأثيرات السياسية أو الضغوط الإدارية.
لقد دعمنا برنامج رئيس الجمهورية الإصلاحي عن قناعة وإيمان بضرورة التغيير، لأن بناء دولة قوية لا يكون إلا بالشفافية والعدالة والمساواة.
لكن لا يمكن أن ننتصر في معركة الإصلاح إذا بقي الفساد متغلغلا في مفاصل الدولة دون ردعٍ حقيقي.
إن المواطن اليوم أكثر وعيا، ولن يرضى بوعود لا تُنفذ، ولا بشعارات ترفع في المناسبات ثم تُنسى.
إن تقرير محكمة الحسابات يجب أن يكون نقطة تحول في مسار الشفافية الوطنية، لا مجرد وثيقة عابرة.
فإما أن يكون بداية عهد جديد من المحاسبة والمسؤولية،
أو أن يتحول إلى حلقة جديدة في مسلسل الصمت والتكرار، وحينها لن نلوم إلا أنفسنا.
أمير سعد